فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (2):

{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
والرؤية: قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية، والشيء الذي نعلمه إما: علمَ اليقين، وإما عين اليقين، وإما حقيقة اليقين. علم اليقين: أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا، وبها كذا وكذا، فهذا نسميه (علم يقين)، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا (عين اليقين) فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه (حقيقة اليقين).
لذلك؛ حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به (علم يقين)، فإذا رأيناها فهذا (عين اليقين) كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7].
فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرّها ولظاها- وهذا مقصور على أهل النار- فقد علموها حَقَّ اليقين، لذلك يقول تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 90- 96].
ومعنى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ..} [الحج: 2] الذهول: هو انصراف حاجة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً، فيسقط ما بيده مثلاُ، فالذهول- إذن- سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة.
العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفاً على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته.
لذلك، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها، قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشْفَى، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة.
فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأيُّ هول هذا الذي يشغلها، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة.
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} [عبس: 34- 36].
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم، قالوا: لأن الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.
وقوله تعالى: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ..} [الحج: 2].
والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها: مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً، وتضع الآن ثديها في فَم ولدها، فهي مرضِعة فانظر- إذن- إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة.
وقوله تعالى: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا..} [الحج: 2] بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 5].
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه- إذن- مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث.
والحَمْل نوعان: ثقَل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله تعالى: {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} [طه: 101] والحِمْل(بكسر الحاء): هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك، أمّا الحَمْل بالفتح فهو: الشيء اليسير تحمله في نفسك. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ ** مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْر

أي: أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل، إنما الحمل هو الهمّ الذي يحتويه الصدر.
ثم يقول سبحانه: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] سكارى: أي يتمايلون مضطربين، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر،(وتطوحهم) يميناً وشمالاً، وتُلقِي بهم على الأرض، وكلما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً!!
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل وفزع {وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2].
لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا؟
قالوا: لأن الله تعالى خلق الجوارح، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار، ويفقد توازنه، كأنْ تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلاً.
فهذا الاضطراب لا من سُكْر، ولكن من هَوْل ما يرونه، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن، فيتمايلون، كمن اغتالتْه الخمر.
وقوله تعالى: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] إنهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم؛ لأن الذي يَصْدُق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم، إذن: انتهت المسألة وما كنا نكذب به، ها هو ماثل أمام أعيننا.
ثم يقول سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله..}

.تفسير الآية رقم (3):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}
الجدل: هو المحاورة بين اثنين، يريد كل منهما أنْ يؤيد رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر، ومنه: جَدْل الخوص أو الحبل أي: فَتْله واحدة على الأخرى.
ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتم فَتْله وغَزْله، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل في الأفكار، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته؛ ليدحض حجة الآخرين.
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله..} [الحج: 3] فكيف يكون الجدل في الله تعالى؟
يكون الجدل في الله وجوداً، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله، أو يكون الجدل في الوحدانية، كمن يشرك بالله إلهاً آخر، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به، هذا كله جدل في الله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ..} [الحج: 3] إذن: فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ..} [النحل: 125].
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين، وكما يقولون: النصح ثقيل، فلا تجعله جَدَلاً، ولا ترسله جبلاً، ولا تُخرِج الإنسان مما يألف بما يكره، واقرأ قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة..} [النحل: 125].
وقال سبحانه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ..} [العنكبوت: 46].
لذلك؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْناً من الجدل في قوله تعالى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي: ففي خطابهم يقول: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا..} [سبأ: 25] وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] ولم يقُلْ هنا: تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق.
ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق، فسألهم: ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق: استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ..} [سبأ: 46].
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟
ولما قالوا: كذاب، جادلهم القرآن: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا: إنها عبقرية كانت عند محمد، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله: أبوه مات قبل أنْ يوُلد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً.
وهكذا، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك: عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ: ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال: تقولون إن في الجنة طعاماً لا ينفد أبداً، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ ينفد. انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشَّعْبي: أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا- إذن- جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول: كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول: أرأيتم الجنين في بطن الأم: أينمو أم لا؟ إنه ينمو يوماً بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، إذن: يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال: أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالاً: تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح فانطفأ، فقال له: أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار: (تقتله الفئة الباغية) وأخذوا يتركون جيش معاوية واحداً بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: لقد فشَتْ في الجيش فاشية، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية: وما هي؟ قال: يقولون: إننا قتلنا عماراً والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: (تقتله الفئة الباغية).
فاحتار معاوية ثم قال: قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال- يعني: علي بن أبي طالب، فلما بلغ الكلامُ سيدنا علياً، قال: قولوا لهم: فمَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟ أي: إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال.
هذا هو الجدل عن علم، والعلم قد يكون علماً بدهياً وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه. أو علماً عقلياً استدلالياً، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دَخْلَ لأحد فيه، وسبق أنْ ضربنا مثلاً للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلاً، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار الأب، فيحاول أولاً أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلى له المكان.
وهنا نتساءل: كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين؟ ولا يمكن أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولاً؟
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم تداخل الأشياء، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة.
ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية سابقة، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلاً، وهكذا إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها.
وهكذا تستطيع أن تقول: إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفاً، فالسماء مثلاً، يقولون هي كل ما علاك فأظَّلك، فالسقف سماء، والغيم سماء، والسحاب سماء، والسماء سماء، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف؛ لأنك حين تسمع هذه الكلمة(السماء) تعرف معناها بديهة دون تعريف.
وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها؛ لأنها واضحة، فلو قلتَ لهذا الطفل: اجلس على أخيك، فهذا ليس جدلاً؛ لأنه لا يصح.
أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء، كأنْ تدخل بيتك فتجد(عقب سيجارة) مثلاً في(طفاية السجائر) فتسأل: مَنْ جاءكم اليوم؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء، فوجد على الأرض آثاراً لخفِّ البعير وبَعْره، فقال: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من عباده.
فعلى المجادل أن يستخدم واحداً من هذه الثلاثة ليجادل به، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها.
وقد نزلت هذه الآية: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ..} [الحج: 3] في النضر بن الحارث، وكان يجادل عن غير علم في الوجود، وفي الوحدانية، وفي البعث.. إلخ.
والآية لا تخص النضر وحده، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله، ولَفَّ لفَّه من الجدل.
ثم يقول تعالى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3] أي: أن هذا الجدل قد يكون ذاتياً من عنده، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله، سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن.
إذن: فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع بك في شِرَاكه.
لكن، لا نجعل الشيطان(شماعة) نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا، فليست كل الذنوب من الشيطان، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها، وسبق أنْ قُلْنا: إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر، فمَنِ الذي وسوس له أولاً؟ وكما قال الشاعر:
إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه؟

وفَرْق بين المعصية من طريق النفس، والمعصية من طريق الشيطان، الشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه، أمّا النفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا تحيد عنه، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا الشيء بالذات.
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى معصية أخرى، أياً كانت، المهم أن تعصي، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من نفسك، أو من الشيطان.
ولما سُئل أحد العلماء: كيف أعرف: أأنا من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال: هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك أنت، قال: كيف؟ قال: انظر في نفسك، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هدية، فاعلم أنك من أهل الآخرة، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا.
ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه. فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] فهذه الآية تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها: فالعلم يُرَاد به البدهيات، والهدى أي: الاستدلال، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيْاً من الله، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن.
ومعنى: {مَّرِيدٍ} [الحج: 3] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر، والمرود: العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرد، والمارد: هو المستعلى أعلى منك.